كلمات متقاطعةأما زلت تحن لأيام لك سلفت، في تلك المدينة الهادئة التي يذكرك كل جحر وبشر فيها، بتفاصيل سني عمرك منذ الطفولة والصبا وحتى الآن؟!
&&&&
على هذا الطريق وقد.كان ضيقا ترابيا بين حقول نابضة بالخضرة، مبتهجة بأغاني الحصاد، هنا كانت خطواتك الأولى نحو مدرستك الابتدائية، وكانت نشوة شبابك أيضا. نعم كانت هي الدنيا بحلوها ، وأنت تلتقط حبات التوت البري الأسود.
وكانت أيضا هي الدنيا بخوفها وقلقها على ذات الطريق ،خوفك من أن يصحو كلب الفلاح القابع وراء الزريبة، فيفاجئك بزأيره ونباحه المخيف.
وخوفك في طريق عودتك إلى البيت،وقد صبغت بألوان التوت قميصك المدرسي، فيضربك أبوك.
&&&&
في ذلك الصباح الربيعي،ارتديت ملابسي بتأنق،
ملتمسا جولة كنت قد اعتدتها في الماضي.
اشتري جريدة الصباح، أعرج نحو الحديقة العامة، وهناك تحت الشجرة الكبيرة المعمرة، على مقعد رخامي عتيق، أعطي لجسدي الحق في الاسترخاء، متصفحا الجريدة بنهم شديد، حتى أصل لصفحة كلماتها المتقاطعة، لأفكر في ألغازها بشغف واستمتاع.
&&&&
لم أجد بائع الصحف في مكانه في ذلك الركن من رصيف الشارع الكبير،سنوات وسنوات ، و(العم فريد)، كان هنا بصحفه ومجلاته، وكنت أتحفه ٥ مليمات (نصف قرش) ،كي يسمح لي أن أقتنص وقتا رائعا في تصفح مجلات الاطفال بشغف ،دون أن أفتح الأوراق الملتصقة.
لم أجده.نعم لم أجده.
دخلت شارع السوق، أين دكان العطار؟ لم أجده. بجواره صانع الفوانيس، لم أجده. انتصب مكان البيت القديم ذي الشبابيك العالية، برج زجاجي يختق الفراغ ، تحته محلات مبهرة، لكن ليس بها باعة مبتسمون!
، كاد صبي أن يرتطم بظهري بدراجته الهوائية، كان لحسن حظي بائعا متجولا للصحف اليومية. استوقفته بإلحاح، فتشت، لم يكن لديه الكثير منها، أخيرا وجدت شيئا معه ؛صحيفة مسائية صادرة بالأمس.فلأعرج نحو مكاني الأثير ، الحديقة العتيقة.
&&&&
تلك الحديقة الحبيبة؛ التي اعتادت أن تكون مفتوحة للناس والشمس والهواء، كانت محاطة بأسوار حديدية، وبوابات ، وجنازير وأقفال.
أطللت برأسي بين القضبان ،ربما أرى شيئا كنت قد ألفته عنها، فأفزغني صوت مفاجيء من ورائي:
- عاوز حاجة يا أستاذ؟
- هو أنتم قفلتوها ؟ ومتى ستفتحوها؟
- لم تعد هنا حديقة .. ..هذا نادي ملك لرجال أعمال.أصبح بالفلوس... بالفلوس ! المنتزه العام كان زمان.
- ولما رأي دهشتي ترتسم على وجهي ، بادرني قائلا :
- إقرأ اللوحات الإعلانية.
- وتركني دون أن يشفي غليلي.
- تعلن شركة ... عن قبول اشتراكات العضوية في نادينا الحديث للراغبين في الخامسة من مساء كل يوم.
- مرت عيناي على اللوحة ، متتبعا الإعلان، الذي اكتظ ببنود طويلة عن الشروط الواجب توافرها في المتقدمين. كان أول ما وقعت عليه عيناي، بند يبين مقدار الاشتراك السنوي لطالب العضوية ، وهو عدة عشرات من آلاف الجنيهات، غير أن الرقم تحديداً قد زاغ عن عيني تماما.
&&&&
تلعثمت خطاي فوق الأرصفة وزحام الشوارع ، وصخب الأسواق. هل أصابتني أنا التشوهات في غربتي ، أم أن تلك التشوهات قد أصابت مدينتي الهادئة، وأنا بعيد في بلاد الزيت والرمال!!
&&&&
"أيها الأبله، هذا زمن الشبكة العنكبوتية، وانفجار المعلوماتية، وفيضان الأخبار والحوادث فوق الهواتف المحمولة. أي صحيفة وأي حديقة عامة، وأي أوقات ماتت من زمن، وذكريات قد اندثرت تحت أسفلت الشوارع! وحتى سويعات الحب البريئة ! أي أيام للحب وأي لقاءات لحبيبة، ترى ربما هي الآن عجوز متقاعدة،مريضة، يفزعها صراخ أحفادها ، أو ربما هي الآن في عداد الموتى."
كأن هناك بداخلي من يلومني على سذاجتي، وتمسكي بأفعال عفى عليها الزمن.
&&&&
انزويت على مقعد متهالك, في مقهى كنت ارتاده قديما في الحي القديم؛ في ركن نصف معتم، انتبهت أن بيدي صحيفة، بدت لعيني كأنها جثة ثقيلة لقتيل.
&&&&
أتاني كسولا،متسخا، متحشرج الصوت، مغمض العينين، كان الجرسون ( النادل)؛ يجر رجليه جرا، تاركا الموقد الذي كان يحاول إيقاده دون جدوى..
- طلباتك يا أستاذ؟
" أين هي أيام الصبا ،كان المقهى زمان، يفتح أبوابه مبكرا، والآن قد اقتربنا من الظهيرة!!"
- عصير ليمون لو سمحت.
- للأسف مفيش خلاط .. عطلان.
- شاي .. شاي إذن. قلتها محاولا أن أجد له حلا مناسبا، فيكفيه عناؤه في إشعال الموقد، ودعوت من قلبي أن يكون لديه سكر.
لا زبائن هنا، ولا عصائر طازجة.
.كانت الدكاكين أيام صباي، تفتح عند السادسة صباحا !!!
وباعة الصحف ، والألبان في الشوارع ، تملأ نداءاتهم ،كل الأرجاء.
شاي ... شاي ..
مش مهم.
أقبل بطيئا ، مترنحا ، على كفه صينية معوجة فوقها كوبان ...كاد أن يسقط أمامي ... يتبع الصينية ... سرب من الذباب.
&&&&
لنرى أخبار الأمس ؛أكاد أجزم أن هذا العنوان لصيق بالصحيفة منذ ثلاثين عاما:
-الأزمة الاقتصادية، في سبيلها للانفراج بعد عامين.
- القبض على بائع ليمون متجول يبيع بأزيد من التسعيرة!
- يقتل صديقه من أجل عشرين جنيها.
- هروب مسئول .... متهم باختلاس مليارات.
- انتحار رجل أعمال، بعد اتهامه بتهريب الآثار
- تقتل أمها، بتحريض من عشيقها الشاب الصغير، بعد أن ضبطتهما متلبسين بالجرم المشهور.
- الحبس خمس سنوات لمغتصب ابنته.
رأسي تدور، أشعر بالغثيان.عيناي زائغتان.
يداي ثقيلتان وأنا أحاول قلب الصفحات!
نعم .. تلك هي الصفحة الرياضية . كرة القدم إذن ...تنهدت قليلا ، ترى متى هو موعد المباراة النهائية لفريقي المفضل؟
الصفحة بها صورة لكرة قدم عملاقة.
الكرة تفتح فمها ... تبتلعني في جوفها .. الكرة تدور .. أدور معها وسط حشود جماهيرية تهتف بالشتائم وتصرخ بالتهديدات،ضد اللاعب وتطالبه بركل الكرة في شباك الأعداء. المتفرجون يتبادلون الشباب الفاحش، المدرجات تتقيء آلاف الغاضبين، انفجروا غيظا لإلغاء الهدف بداعي التسلل. اللاعبون في عراك يتشابكون،الجميع في منتصف الملعب، يركضون الآن وراء حكم المباراة للفتك به. في شبكة مرمى فريقي المفضل، انزويت منكمشا على نفسي، كالكرة الخاوية من الهواء، وأنا أرتعد خوفا.
دقات على صينية معدنية تفزعني ، توقظني:
- يا بيه يا بيه .. الشاي.. اشرب الشاي .. أنت نمت وألا ايه؟
&&&&
أفقت والصحيفة بين يدي .. ورأسي مطأطة على صدري.
مددت أصابعي المرتعشة نحو كوب الشاي ، فوجدت أن ذبابة تحاول أن تتفادى الغرق فيه.
يا لهذا الصباح! نظام الصحيفة هو هو.. هل تلك هي فقرة الوفيات مكانها :
تنعى عائلة ... و فاة الحاجة فضيلة ..
إنا لله وإنا إليه راجعون!
قلبت الصفحة ورأسي ثقيلة ؛
الكلمات المتقاطعة ما زالت هنا أيضا .. نعم .. أين الزمن المفضل لي ولها.. شاهدتها وقد بدا حبرها باهتا ....
أفقيا:
١.نجمة رقص شرقي شهيرة/ فسد/ وباء / تجدها في
( أمانة)
رأسيا :
١.أمة (مبعثرة)/
أوضاع (معكوسة)/
تجدها في ( عادل).
فتشت ببطء عن قلم في جيبي فلم أجده.
...
المفضلات