جلست أسامر وحدتي ، وأفكاري تسبح مع تيارات الوجود إلى حيث لا تنتهي المسافات البلورية للزمن اللاهوتي ، مع أنها تنطوي وتنكسر عندما تطؤها أقدام الأحلام المسافرة إلى حيث تقطن مدن الأماني عند شواطئ آمالنا العائمة مع الخيالات التي تجسدها رغباتنا المكبوتة . ***

وجدت مدينة غريبة تنام بين أحضان عالم أزلي أسرني ودعاني للمسير بين حدائقها وجداولها ، كانت الأشجار تتمايل مع نسائم السلام الدائم يفوح منها عبير الحياة الهانئة .. والطيور تغرد سعيدة تطير هنا وهناك .. تحط حيث تهوى وتشاء .. دون خوف من بندقية صياد أو حجر صبي يلهو .

أما الحياة فإنها تنساب برقة وعذوبة من منابعها لتروي كل شيء بالمحبة والحكمة الظاهرة ، طالعتني الوجوه الإنسانية تعلو قسماتها ابتسامات صافية تتلألأ بأنوار الفرح والخلود .

ركضت كثيرا وراء رجل يسير ببطء شديد حتى أدركته ملهوفا لإجابات كثيرة كانت أسئلتها تعذب روحي وتقلق نفسي ،أخيرا أدركته ، وقفت أمامه وجها لوجه وسألته :

- ما سر مدينتكم وسعادتكم ، لماذا كل شيء هادئ وجميل تسطع منه المحبة والحكمة والفرح !!؟.

- أجاب بدهشة : ماذا تعني !!؟.

- ألا تعرفون الحزن ؟

- الحزن !!؟ .

- أعني القهر.. اليأس ..البكاء ..

- بكاء .. بكاء !!؟ .

أخذ يردد الكلمة الأخيرة وكأن أذنيه لم تلتقط غيرها

سألته : ما بك ؟.

أجاب : ماذا تعني كلمة بكاء الغريبة !؟ .

- يا ألهي كلمة بكاء غريبة !

- لم أسمع بها قط.

حاولت أن أشرحها له فقلت : عندما يولد الإنسان فإن أول ما يبدأ به الحياة هو البكاء وأذكر أن أمي قالت لي : " يا بني يوم ولدت ملأت أرجاء المشفى ببكائك " .

سألني متعجبا : وضح لي أكثر معنى كلمة بكاء ؟

صمت لحظات وأنا أفكر كيف أفسرها له وأخيرا وجدت مهربا لي فقلت له : ابحث عنها في القاموس .

- قاموس ماذا تعني !!؟.

صرخت متعجبا وغاضبا : يا إلهي مدينة بلا قاموس ما هذه المدينة العجيبة !!؟.

نظر إلي مشفقا وقال : لا أعرف ما تريد أيها السيد ؟.

تمالكت نفسي وهدأت من إنفعالها وقلت له : لا أريد شيئا لكن القاموس هو معجم كلمات يعطي لكل كلمة معنى وأصل .

قال وملامح الضجر ترتسم على محياه : اسمع أيها السيد نحن في هذه المدينة لا نؤمن بالمعاني الغريبة لنا خط سير واضح فطرنا عليه ووجدنا أنفسنا نعيش فيه حياتنا بهدوء وعناوين مدينتنا واضحة وآمالنا أن تبقى مدينتنا خالدة بما تحتويه من محبة وخير وسلام وجمال .

- كل ما تقوله عظيم ولكن لا بد من وجود أشياء هامة .

- أنا حتى الآن لا أعرف ما تريد وتجعلني أشعر بأشياء لا أعرفها من قبل .

- أ أتعبك حديثي ؟.

- لا أعرف .. دعني وشأني .

في أفق خيالي لاح سؤال طرحته عليه فورا : هل عندكم تلفاز ؟ .

- تلفاز !!؟.

- إنه جهاز تسمع وتشاهد فيه أخبار العالم وما يحدث فيه من حروب وزلازل وسيول ويبث المسلسلات والأغنيات الجميلة ويتحدث عن ..

- " مقاطعا " أرجوك لا أريد سماع شيء أتركني وشأني .

- ولكن يا ...

لم أكمل جملتي الأخيرة لأنه تركني وسار مبتعدا حاولت اللحاق به لكن دون جدوى.. ناديته لكنه رفض سماعي .

وقفت بضع لحظات أتأمل المدينة العجيبة ، ثم عدت سابحا بأفكاري تاركا المدينة التي كانت وما زالت حلما خياليا لا تتقبله عقولنا التي تعودت القهر والظلم والألم والاستماع إلى أخبار الحروب الدامية والصرعات المختلفة ، والتي تخاف أن تحلم بسلام دائم في هذا العالم الماجن الذي تتحكم بمصيره عقول أصابها جنون العظمة فملكت بأيديها الشيطانية قوى مدمرة تسعى لفنائه .

تحياتي مريم محمود العلي