تعددت جوانب الإصلاح التي نهض بها "علي مبارك"، سواء ما اتصل منها بجانب العمران والتشييد، أو ما امتدت إليه يداه في جانب التعليم والتثقيف، وله في كل منها يد محمودة وفضل مشكور، وكان من مآثره الباقية إنشاء "دار الكتب المصرية" التي حفظت ذاكرة الأمة وتراثها.
وقد عرفت حواضر الخلافة الإسلامية ومدنها الشهيرة دور الكتب التي تفتح أبوابها لجمهور العلماء والباحثين، ولعل أقدم مكتبة أنشئت كانت "بيت الحكمة" التي بلغت ذروة مجدها وعطائها في زمن الخليفة "المأمون العباسي"، وكان شغوفًا بالعلم، مكرمًا لأهله يجلهم ويعرف أقدارهم، فجمع لها أهم الكتب الموجودة، وكلّف المترجمين بنقل أمهات المخطوطات اليونانية والسريانية إلى العربية، وظل العلماء يترددون عليها حتى نهاية القرن الرابع الهجري.
وكان من نصيب القاهرة أن أنشئت فيها خزانة كتب العصر الفاطمي، وكانت تضم كثر من ستمائة مجلد، حتى وصُفت بأنها من عجائب الدنيا، وأنه لم يكن في جميع بلاد الإسلام دار كتب أعظم منها، ثم بيعت بعد سقوط الدولة الفاطمية، وقيام دولة صلاح الدين الأيوبي، وانتقى منها القاضي فاضل مائة ألف كتاب قبل عملية البيع، ووضعها في مدرسته "الفاضلية".
ومع ظهور المدارس السنية ودور الحديث في مصر والشام في العصر الأيوبي والمملوكي حلت مكتباتها محل مكتبات قصور الخلفاء ودور العلم، وأصبحت تقدم خدماتها لطلابها وشيوخها، وقد لقيت تلك المدارس دعمًا من السلاطين والأمراء والأثرياء الذين كانوا يوقفون لها الأراضي والضياع والأموال؛ رغبة في استمرار وظيفتها، وحفاظًا على رسالتها. وحرص الواقفون على وضع الشروط التي تصون ذخائر مكتباتها من التلف والضياع، والقوانين والآداب التي يلتزم بها المترددون من نظم الاطلاع والاستعادة والنسخ، وغير ذلك من الأساليب التي تعد نموذجًا لما يعرف الآن باسم الخدمة المكتبية.
وفي أواخر العهد العثماني خرجت من مصر كثير من المخطوطات بطرق غير مشروعة استقرت في مكتبات أوروبا، ثم جاءت الحملة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر لتستولي على العديد من المخطوطات النادرة التي عرفت طريقها إلى المكتبة الأهلية في باريس.
المفضلات